- المقاومة المباشرة: سياسةً واحتلالاً
وقفت حركة التحرّر الوطني العربية طويلاً، ومنذ منتصف القرن العشرين الماضي، موقفاً اعتراضيّاً على السياسة الأميركية في منطقتنا وفي العالم. وقد تدرَّج هذا الاعتراض مع كرور الزمن من اعتراضٍ سياسيّ في ابتداء أمره إلى مقاومةٍ مسلَّحة. هنا وجهان لمقاومة السياسة الأميركية في البلاد العربية:
الوجهُ الأول منها كان سياسيّاً وثقافيّاً وإعلاميّاً وخاضت فيه التيارات المناهضة لأميركا كافة (الوطنية والقومية واليسارية والإسلامية). لقد بدتِ الإداراتُ الأميركية المتعاقبة مَصْنَعاً رئيساً للحرب والنهب والهيمنة والاستكبار في المخيال السياسيّ العربي وفي الأدب السياسيّ لتلك الحركات. تختلف مفردات التوصيف باختلاف المواقع الفكرية والشبكات المفاهيمية، لكنها تجتمع على التشخيص عينِه: السياسة الأميركية معادية لمصالح الأمة وأهدافها في الوحدة والتنمية المستقلة والاستقلال الوطني والقومي وتحرير فلسطين، وهي ترعى المشروع الصهيوني وتقف وراءَهُ في المحافل الدولية وتموِّل حروبه ضد العرب والفلسطينيين.
تطورت هذه المقاومة السياسية الاعتراضية مع الزمن، وصَقَلتْها أكثر معانيةُ حروب أميركا في فيتنام ومعاركها الطاحنة ضد الحركات التحررية في أميركا اللاتينية ودعمها للأوليغارشيات العسكرية الفاشية فيها. وشيئاً فشيئا، لم تعد هذه المقاومة السياسية فعلاً نخبويّاً تقوم به أحزابٌ وحركاتٌ سياسية، بل أصبحت ثقافةً سياسيةً عامة للمجتمع العربي تعمَّمت مبادئها وقيمُها ومعطياتُها بالتعبئة السياسية والصحافة الملتزمة والتأليف.
وكلما أمعنتِ السياسةُ الأميركية في مناصبةِ العرب عداءً، وفي مُعَالَنَتِهِمْ اعتراضاً على حقوقهم المشروعة، وفي مُحَالَفَةِ عدوّهم الصهيوني، زاد معدَّلُ المناهضة الشعبية العربية لتلك السياسة. ولقد بلغت هذه المقاومة السياسية في لحظاتٍ منها حدّاً أَطْلَقَ، على أوسع نطاق، فكرةَ المقاطعة الاقتصادية والمقاطعة الشعبية للبضائع الأميركية.
الوجه الثاني منها، كان عسكريّاً أو مسلَّحاً. لن أتحدث هنا عن أفغانستان، لأنها تقع خارج دائرة الوطن العربي، بل عن الحالات العربية الثلاث التي شكَّل فيها الاحتلال الأميركي، أو الوجود العسكري الأميركي، مناسبةً للمواجهة المسلحة مع ذلك الوجود، وهي: لبنان والصومال والعراق.
أنزل الأميركيون على شاطئ بيروت قوات "المارينز" ضمن "القوات المتعددة الجنسية"، التي تشكلت إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف العام 1982 بمقتضى "اتفاق فيليب حبيب". وبسبب إحجام "ضمانات" فيليب حبيب عن الوفاء بالتزامها بعدم المساس بالمخيمات الفلسطينية بعد خروج قوات منظمة التحرير، وبعدم احتلال بيروت وبسبب الموقف الأميركي المنحاز لإسرائيل، اعتُبِرت قوات "المارينز" في حكم قوات احتلال، فجرى تفجير مقرها بشاحنة ملغَّمة أسفرت عن مئات القتلى قبل أن تبدأ في الانسحاب من لبنان.
كانت تلك أول معركة عسكرية عربية مباشرة مع الجيش الأميركي. ثم لم تلبث أن تجدَّدت بعد عشر سنوات بمناسبة دخول القوات الأميركية إلى الصومال، حيث خاضت الفصائل الصومالية المسلحة بقيادة فرح عيديد مقاومة مسلَّحةً شرسة انتهت بانسحاب القوات الأميركية من البلاد. لكن الفصل الأطول من هذه المعركة المسلحة مع الاحتلال الأميركي هو الذي جرى على أرض الرافدين منذ دخول القوات الأميركية إلى بغداد في التاسع من أبريل/ نيسان 2003 حتى اليوم.
فلقد أطاحتِ المقاومة الوطنية العراقية باطمئنان الإدارة الأميركية (السياسي والنفسي) لِيُسْرِ أَخْذِهَا العراق جائزةً، وذلك بنجاحاتها في إرهاق أمنِ جيش الاحتلال واستنزافه على نحوٍ مَا عَرَفَ مثيلَهُ حدَّةً منذ حربه في فييتنام.
وكانت النتيجة أنَّ ضربات المقاومة العراقية، وما ينجم عنها من خسائر بشرية ومادية في صفوف قوات الاحتلال، أدخلتِ المشروعَ الأميركي حيال العراق في نفقٍ مسدود، بل أطاحت بالأحلام الإمبراطورية الأميركية التي تطلعت يوماً إلى إعادة تشكيل المنطقة العربية ضمن مشروع "الشرق الأوسط الموسَّع".
سفيـــر الغــــــرام